• أخبار
  • مقال رأي
  • 2022/11/13 13:42

من "البوز" إلى "الأوديمات ": يربح الجميع إلا أصحاب القضيّة

من
تُجمع جلّ النظريات السوسيولوجية في الحقل الإعلامي على أنّ لوسائل الإعلام ثلاث وظائف رئيسيّة ، هي الإخبار والتثقيف ثم الترفيه، غير أن المعادلة إنقلبت حيث لم يعد للوظيفتين الأولى والثانية أهمية بالغة في ظلّ هيمنة "البوز" واللهث وراء "الأوديمات".


ومن المؤكد أننا منتمون، بالإكراه لا الإختيار، إلى مجتمع موغلٍ في التفاهة والرداءة، في ظلّ هذا الإنشغال الجماعي بالـ"BUZZ" فعلاً وإنفعالاً وتفاعلاً، فالكلّ يبحث عن السبْق، وإن كانت الطريق إلى الهدف المنشود، مفتوحة على الفضيحة والخسارة واللاّ معنى، فما يهمّ هو عدد "اللايكات" والمشاهدات والتعليقات وبورصة الأوديمات.

ولكي نفهم "البوز" كظاهرة سوسيو تقنية لا بأس أن نعود إلى مفهومها لغة وإصطلاحا ، الذي يدلّ على الصوت الذي يحدثه طيران الذباب، فتلك الحركات اللانهائية، التي يمارسها الذباب، تختزل معنى "البوز" في ميدان الدعاية والإعلان حيث يغدو الأمر متصلاً بحديث متكرّر حول منتوج معين بغرض التحفيز على استهلاكه والإقبال عليه، ومنه يصير "البوز" نوعاً من "المَطْرَقَةِ الإعلانية" التي تستعير "ثقافة الذباب" في الطيران.وحدّد رائد الأعمال الأمريكي" Mark Hughes" محفّزات "البوز" في ستة مؤشرات معجمية عند الضغط عليها يرتفع سهم "البوز"، وهي المحرّمات وغير العادي وإفشاء السرّ والفضيحة والمرح والإعجاب، وجميع هذه المؤشرات موجودة في المشهد الإعلامي.

عديدة هي الأسئلة التي تتبادر لذهنك كلّما تمحّصت أكثر في المشهد الإتصالي واقعا كان أم إفتراضا: ماذا يحدث اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي باسم "البوز"؟ هل جلب المال بأي محتوى يُبرر هذا الإنزياح إلى القاع ؟ أم أن التحرّك في الإفتراضي يعطي الإنطباع بالعبث؟ ما الذي يجعل المشاهدة ترتفع كلما تعلّق الأمر بحياة الاخرين الشخصية ؟ ما الذي يجعل المتابعين مشدودين نحو سلوكات لا معقولة، وحكايات مزيّفة، ونسيج أكاذيب لخلق الفرجة وحشد المتابعة؟ كيف تتورّط الأغلبية في لعبة الطُعم الذي يجعل الظاهرة تنتعش وتتناسل، ويضيع معها سؤال التعجّب؟

تكفي نظرة واحدة على المشهد الإعلامي عموما حتى نتعرّف على واقع استفحال ظاهرة "البوز"، وخطورة انتعاشها في الوعي الجماعي، وتناسلها في غياب وقفة تحليل للخطاب الإعلامي الذي بات يلعب بالمشاعر والأخلاق والقيم والقانون والحقوق، ويختلق حكايات من العبث يجعلها قانونا جديدا لنظام المعاملات المجتمعية.

"المعنى في محنة".... تعبيرٌ يختصر طبيعة المحتوى الذي يتم نشره في الوسائل الإعلامية ومواقع التواصل الإجتماعي بإسم "البوز"، الذي بات يشكّل ظاهرة خطيرة تُحوّل المتابعين إلى قطيع يُساق نحو اللاّفراغ، ويقتات من محن الناس خاصة المشاهير منهم وحياتهم الشخصية وينصب "محاكم إفتراضية" ،ولعلّ ما حصل مؤخرا مع الممثلة التونسية "ريم الرياحي" و الفنانة المصرية "شيرين" خير دليل : زواج بعد حب ، ثم إنفصال عنيف أو طلاق مفاجئ، تعقبه تجاذبات وإتهامات تنال من إستقرار حياتهنّ الشخصية، يتسلّل  "البوز " ليستثمر في محنهنّ ويغذّي الفضول الجماهيري ، طفرة إعلامية فخذلان ومساعٍ من المقرّبين والخصوم، كلّها أمور كانت حاضرة في قصصهنّ رغم إختلاف تفاصيلها ، وباتت أسمائهنّ هدفا للسباق الإعلامي والإستفادة لدى الجهات والأفراد، فلكلّ منهم ربحه الخاص، تماما كما جرى في قصص أخرى شبيهة يستثمرها مستفيدون من إندلاعها وتأجّجها، ويقبع "ضحاياها" تحت مطرقة "المجتمع" بين هجوم ودفاع .. تبرير ومناشدات ويبقى الرهان الأقصى لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي هو تحقيق أعلى درجات "البوز" الممكنة، أملا في حصاد أسهم أعلى في بورصة "الأوديمات"، ولا يهم أن تكون الوسيلة دوساً على المشترك القيمي، أو عبثاً بالحياة الخاصة، أو حتى انتهاكاً للمحذور والمحظور.

والأخطر في ظاهرة "البوز" أنها بدأت تتأسّس على حبك حكايات ووضع سيناريوهات، وبرمجة وفق تخطيط زمني، يُخضع المتابعة لموضوعات محدّدة(الخيانة الزوجية، الإغتصاب وغيرها .. (وبتأمل بسيط جدّا، يتم إطلاق هذه الموضوعات دفعة واحدة، ثم تظهر موضوعات أخرى تجعل المتابعين ينتقلون بسرعة دون التفكير في هذا التحكّم المبرمج، وتتعمّق الظاهرة في خطورتها عندما تعمل بهذه البرمجة على إحداث نوع من الإشباع بالمواضيع، بعدها إما لن يثار الموضوع ، يُثار تحت "الطلب المنشود " أو يصرف النظر عن موضوع اخر أكثر أهمية.

ومن يوم ليوم تنتعش هذه الظاهرة أكثر "، لتُقدم واقعا مُربِكا في علاقاته وممارساته وقيمه، واقع جديد يفرض علاقات إجتماعية غير مألوفة، ولغة تتعرّى من التعاقد الإجتماعي، وينتج ثقافة تجعل من التفاهة مرجعا وأفقا، وترفع من شأن اللافراغ،  وتقتات من محن الآخرين وحياتهم الشخصية لأجل  " اللايكات "و" الأوديمات" وهنا الخطورة.


لبنى حميدة
مشاركة
الرجوع