• أخبار
  • مقال رأي
  • 2016/06/14 11:13

شربة وبريك

شربة وبريك
بقلم سعد برغل

تعرف مقاهينا طيلة السنة نماذج بشريّة ، طريفة جدّا، تنطق الحكمة وتقول الصّدق و هي ترمي كلّ مرّة حكمتها في الكلام وتمرّ ولا تتوقفّ وتكاد تتأكّد أنهم مجانين عقلاء، 

مجانين يقولها لباسهم وضحكهم واستخفافهم بالدنيا، مجانين لأنهم "بايعينها بلفتة"، مجانين لأنّهم لا ينخرطون في نقاشات جادّة ولا يدعوهم  أحد إلى اللقاءات الحزبيّة، يمرّون بالمقاهي مسرعين، ينتعلون عادة بلغة ويرتدون لباسا خفيفا صيفا وشتاء، مجانين لأنّهم لا يواظبون على زيارة حلاّق، مجانين يعرفون دقائق السياسة ويعرفون دقائق المجتمع، يرمون حكمتهم فتصيب مرماها وتشخّص بالضبط واقع البلد، لا يدعوهم بالطبع إعلام ما بعد الثورة إلى البلاتوهات، فهذه البلاتوهات تحتاج لابسي البذلات الضخمة والحذاء اللّماع ومن يُنزّه كلبه كل عشيّة بالكرم، وينتقل مدافعا عن "قفّة الزّوالي" من إذاعة إلى إذاعة يمتطي سيارة رباعيّة الدفع ويحرسه على حساب المجموعة الوطنيّة شرطيان أو أكثر.

 تعرف مقاهينا كلّ ليلة مناقشات وارتفاع صوت يكون عادة من روّاد مقرّات الاتحاد أبطاله؛ فهو مهما كان مستواهم العلمي، يعرفون أكثر من غيرهم، ينتقل الواحد منهم، صاحب مستوى علميّ متطوّر جدّا، سنة أولى تعليم ثانوي، نظام قديم، موظّف برتبة عامل، لا يعمل لأنه فوق القانون، فهو عضو جامعة نقابيّة، ينتقل هؤلاء من البيضة إلى الحمار ومن الحمار إلى الشهيلي بصحراء نيفادا، ومن صحراء نيفادا يحدّثك حديث الواثق، العارف، الفاهم، العالم عن الصقيع في القطب الشمالي، ويعلو صوته فلا يتكلم جامعيّ، ويعلو صوته فلا يتكلم مهندس، ويعلو صوته فلا يتكلّم طبيب، هناك صوت واحد يعرف مصلحة البلاد، و يدافع عن الشغّيلة ولا يعمل ولا يبذل جهدا ويتغيّب ويعتبر نفسه فوق القانون؛ إنّه عامل برتبة مدير عام لأنّه يشارك في التفاهات النقابيّة التي تصل أحيانا حدّ البلطجة.

بمقاهينا صنف آخر من الرّوّاد، يطلبون قهوتهم وينتحون مكانا منزويا، ينفذون دخانهم، ويتابعونه بالنظر، تنظر إليهم فتأخذك على معظمهم شفقة؛ عاطلون على رصيف الشغل، مهمومون لا يملكون حليب صغار، يائسون من بلد آخر اهتمام سياسيّيه سيارات فخمة وعشاء بأفخم فنادق العالم، شباب يرون عمرهم يمضي وتموت أحلامهم في الغد الباسم، قهوة مرّة وسيجارة ودخان يتلاشى كما تتلاشى أحلامهم ويتحوّل سعالا بصدور نخرتها صفاقة السياسيّين وسفاهتهم.

بمقاهينا مثقفون وموظّفون، عاطلون عن الإنتاج، يتكلّمون في الشأن السياسيّ ويندّدون بحكومة الصيد الأولى، وبحكومته الثانية وبالحكومة القادمة، يندّدون بما انتهت إليه بلادهم من سخريّة الثّوار ومن تحكّم اللوبيات الماليّة والدينيّة والنقابيّة والدعويّة والرياضيّة والثقافيّة والجبائيّة، ويطالب كلّ بالمحاسبة؛ محاسبة من؟ متى؟ كيف؟ لماذا؟ محاسبة القتلة بالرصاص، محاسبة القتلة بالياجور، محاسبة القتلة بالمال الفاسد، محاسبة المرتشين، محاسبة من اعتبر تونس غنيمة، محاسبة من أطلق أيادي العابثين باسم الدين، محاسبة حكومة الترويكا، محاسبة حكومات ما بعد الترويكا، محاسبة الهواء والحشرات والإبل والحمير، ومحاسبة العشب الاصطناعي وكرة السلّة، محاسبة مهزلة في بلد قيل ذات يوم هي جمهورية الموز، لكنّ السّؤال؛ هل هي جمهورية الموز الأولى أم الثانية؟.

صنف آخر من روّاد مقاهينا يطالب بتنقل وفود حكوميّة إلى المقاهي لتدشينها في مشهد تونسيّ سريالي، ولا غرابة ففي غياب المشاريع يهرول نصف أعضاء الحكومة لتدشين مقهى وغدا سنجدهم يدشّنون روضة قرآنيّة ولعلّنا نعيش لنراهم باسمين فرحين مستبشرين بافتتاح ملهى ليليّ، وتتطوّر المشاريع ونبلغ ما بلغت الأمم المتحضّرة كأنْ يدشّنوا مطعما للملاوي والبريك التونسيّ وينتقل بعضهم إلى القيروان لتدشين حانوت لبيع المقروض ويذهب وفد إلى باجة لتذّوق المخارق الباجية ويبتعد بعضهم نحو مطماطة للإسهام في تدشين محلّ  للفطاير.... عشتهم وعاشت مقاهينا حمالة مآسينا. شكون قتل بلعيد؟.

مشاركة
الرجوع